جبل صبر.. ربيع الخضرة وسفينة الضباب
سابقنا الشمس قبل أن تشرق لننطلق من هنا من الحالمة تعز بعد أن جهزنا عدتنا ..وشوقنا يزداد كلما اقتربنا من جبل صبر الذي طال اشتياقنا لجماله والتجول بين الحقول الخضراء والزهور الملونة وبدأنا نصعد أول منعطف من الجبل مودعين المدينة تكمل أحلامها ونومها بكل هدؤ وسعادة . وبعد وقت قصير وصلنا إلى جانب منتزه الشيخ زايد بن سلطان ذو البناء الضخم المطل على المدينة بالكامل ، ظلينا نراقب حركات الناس والوجوه البريئة لأبنا الريف ، بعضهم على الرصيف يبع القات والفواكه والبعض ذاهبين للعمل في الحقول والمدرجات الخضراء وآخرون نازلون إلى المدينة وهكذا اختلط الحضر بالريف في مشهد جميل قضيناه في متعة واستراحة.
واصلنا السير إلى الأعلى في المنعطفات الإسفلتية المتطورة ومن يميننا ويسارنا مناظر مدرجات خظراء خلابة وزاهية تتوسطها منازل تقليدية وأهالي يعملون بكد ونشاط في هذه الواحات الخضراء وكأنها لوحة فنية رسمها أحد الفنانين المبدعين.
للقرى المتناثرة على الجبل طعم خاص،معظمها لا تزال تحتفظ بعاداتها وتقاليدها القديمة، والأهالي لا يزالون يحتفظون بالبساطة والاحتفاء بالزائر تشعر بذلك وأنت تتحدث مع أي شخص فتصافحك الابتسامات قبل الأيادي لا احد يزور صبر إلا ويقع أسيراً في عشق المنطقة التي تكسوها الخضرة المتدرجة الألوان من الاخضر الباهت إلى العميق كالزمرد تعطيك الإحساس بروح الجمال لهذا السندس الأخضر والنباتات التي تنبثق من بين الأحجار وأشجار الفاكهة التي بجوار كل المنازل .
وقفنا في منتصف الطريق المؤدية إلى قمة الجبل في منطقة (ذي مرين) بإطلالة واسعة على تعز بالكامل ونشاهد المدرجات الخظراء في الأسفل وفي هذا المكان يتواجد السواح بكثرة يراقبون حركة المدينة التي تتلألأ وكأنها لمعان الماء في قعر بئر.
مسجد أهل الكهف
وبينما نحن في شوق ولهفة لنعانق العروس تاج الجبل سحرتنا شذرات روحانية من يمين الطريق في منطقة المعقاب وسط واحة واسعة من الخضرة المختلطة بالأزاهير الملونة تتناثر فيها بعض المنازل التقليدية هنا وهناك وكان منبع الشذرات هو مسجد أهل الكهف .
استقبلنا في المسجد الحاج قائد بابتسامات بريئة نابعة من وجهه وبداء يشرح لنا تفاصيل عن المسجد .. وهو مبني بأحجار تكلسية مطلية بالقضاض الأبيض بشكل مستطيل بمساحة 18 متراً وعرض 12 متراً تقريباً ، وللمسجد ثلاثة مداخل في المدخل الجنوبي وبركة للماء مبطنة بالحجارة والقضاض وسقف المسجد خشبي مزخرف وأعمدته خشبية متصلة بأحجار عليها نقوش جميلة ، وفي زاوية المسجد توجد غرفة صغيرة فيها فتحة الكهف بقطر 70 سم يقال أنها تمتد إلى مدينة ثعبات الواقعة أسفل الجبل من جهة الشرق على بعد عدة كيلو مترات وتهب منها رياح أحيانا تطفي الفانوس أو الشمعة كما شرح لنا ذلك الحاج قائد ؛ ويرتبط اسم المسجد بواقعة أهل الكهف التي تعدد ذكرها في القرآن الكريم حسب اعتقاد الأهالي هناك ، ويعتبر المسجد مزاراً دينياً حافلاً يزار سنوياً في اليوم العاشر من شهر رجب وبجانب المسجد مساحة واسعة تستخدم في ذلك اليوم وهي تابعة للأوقاف يمكن استغلالها بإنشاء استراحة فيها ؛عندما نبتعد قليلاً تطل نظراتنا على شذرات روحانية مشابهة على مد النظر لمسجد بن علوان في يفرس والذي يحضره في يوم الجمع أهالي صبر بنسبة اكبر.
العروس تاج الجبل
بعد طول اشتياق وصلنا إلى راس جبل صبر الشامخ أعلى مكان في اليمن بعد جبل النبي شعيب والرياح الباردة واللطيفة تهب علينا من كل جانب ونمد أبصارنا مد النظر شمالاً وشرقاً ،غرباً وجنوباً نستمتع برؤية المدرجات الزراعية من حولنا وتسافر أنظارنا إلى مشرعة وحدنان وصالة والتعزية ونرسل نظرات إلى دمنة خدير والراهدة حتى قلعة الدملؤة بالصلو.
لحظات جميلة لن ننساها والهواء العليل يداعب أجسادنا بهواء بارد ينسينا كل هموم الدنيا ولا نريد أن نفارق هذا المكان الذي قد لا نلقى مثله في أي بقعة أخرى وما تزيد الشجون شوقاً هي اللحظات التي ننظر بها إلى عدن وخاصة في الليل لنرى أنوار المدينة تتلألأ فنكاد نطير إليها ونسبح في بحرها الساحر .
طيور الجبل
في الغباش الباكر صحونا نستنشق نسيم الصباح ونتجول بين قطرات الندى التي ملأت الأشجار والطيور والعصافير تغرد محلقة في الهواء وعلى الأشجار وقد نهضت من الأعشاش قبل أن يلوح الضوء . . لفت انتباهنا صوت مميز لطير (أبو كحيل ) الصادي والذي يشبه الطيور بصوته العالي وهو صغير الحجم قد لاتراه إلا بصعوبة فوق أغصان الأشجار الخفيفة..
و(البلبل الجبلي) وهو غير بلبل القيعان فهو يفضل العيش في أعالي الجبال وله صوت شجي وجميل ،وعادة ما نرى طائر كبير (العقاب ) يظهر في موسم البذور في نيسان وينبش البذور التي يبذرها الفلاحون والبعض يضع قطعة بيضاء من القماش أو غيره فتحركها الرياح فتهرب العقاب منها ،ولا يعرف أين تذهب العقاب في بقية فصول السنة ، وهناك طيور أخرى متنوعة وكثيرة مثل (مريم الراعية) كما يسمى هنا في صبر والحمام.
الفواكه والمزروعات
لا نتناول الفرسك والرمان والبلس إلا ويذكرنا جبل صبر المشهور بزراعة هذه الفواكه والتي نراها تباع في الأرصفة في الطريق إلى الجبل وأكثر ما تزرع في عبدان المسراخ في شرقي صبر المشهور بوفرة المياه ، فتخرج في الصيف 120 عين ماء إضافية ، أما المزروعات فهي التي ميزت الجبل عن غي
الحياة مازالت تقليدية
وللحياة الاجتماعية في جبل صبر إيقاع خاص ،حيث ما يزال السكان يتوارثون ارتداء ملبوساتهم الشعبية وخاصة النساء اللاتي يرتدين الزي الشعبي والحلي التقليدية حتى أصبحت صبر مصدر الإلهام والإبداع الفني للعديد من الفنانين الذين استطاعوا تجسيد ذلك في العديد من اللوحات التشكيلية والأغاني والقصص الأدبية والصور الفونغرافية..ومازال الأهالي يحافظون على الحياة التقليدية القديمة مثل نقل الماء من الآبار القديمة واستخرج الماء بالطريقة التقليدية (بالدلو ) فيتساعدن الفتيات في سحب الحبل بنشاط وهن يتغنين بالأغاني الخاصة بذلك ولشهرته بالخضرة والزراعة والحياة التقليدية القديمة فقد أصبح مزاراً يتوافد إليه من معظم المحافظات والسواح إلى جانب سكان مدينة تعز فأصبح المنفذ الأول للتفرج والهروب من ازدحام مدينة تعز .
المقالح والفضول في صبر
حب المعرفة جعلت الدكتور عبدا لعزيز المقالح يزور صبر قبل 42 عاماً، ليستمتع بالجمال والحياة الجميلة في صبر فتبدوا تعز من هناك كأنها رمانة ياقوتية مفتوحة ، وترجم ذلك الإحساس في كتابه الجديد (كتاب المدن )متحدثا فيه عن صبر وتعز ؛ ولم ينس الفضول صبر بل عاش جزءاً من حياته في صير فولدت فيه أجمل الأشعار عن صبر كالتي تغنى بها الفنان الكبير أيوب طارش وتوارث أبناء الفضول من بعده في قضاء جزء من حياتهم هناك في صبر كابنه منذر النعمان صديقي العزيز الذي لم ألقاه منذ سنه .
جمال مخفي خلف الضباب
لم تكتمل رحلتنا في قمة راس الجبل المليء بالضباب وإنما بدأنا بالشوط الآخر لنكتشف ما يخفيه الضباب عنا في الجهة الخلفية التي لا تطل على المدينة فيبدوا الجو أكثر نقاءً وإنعاشاً تفوح رائحة المدرجات الخظراء التي تتخللها قرى عديدة متناثرة هنا وهناك على ظهر الجبل الشامخ ومن القرى التي تراه أمامك حَصبان النجادة والشقب وتستمر هذه الطريق حتى دمنة خدير وما ينقصها هذه الجهة تعبيد الطرق لكي تفتح أمام المتنزهين والسواح الأجانب.
لم نرتو من صبر ومهما أجبرتنا الحياة على أن نفارق من نحب فإننا سنعود إلى أحضانها مرة ومرة ومرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق